كل وباء بصمته التي يأبى إلا أن يتركها. ففي العهد الفيكتوري، وفي عصر تفشى السلّ في أوروبا، صنّفت الأعراض المبكرة لمرض السل كبَهَتان البشرة والنحافة ضمن قائمة أبرز معايير الجمال لدى نساء الطبقة الثرية.
فاتجه عدد من النساء للتشبه بمرضى السل، مثل الجميلة الفرنسية ماري دوبلسيس المصابة بالسل، فامتنع بعضهن عن الأكل، واتجهن
ت النساء إلى استخدام مساحيق التجميل الترابية الباهتة.
هكذا غيّر الوباء من معايير الجمال، وصنع موضة جديدة تمثل مفهومهن عن ذلك الوباء، فهل ستكون أقنعة الوجه هي موضة هذا العصر، لتتنافس في تصميمها أشهر دور الأزياء.
وفي زمن الكوليرا، أو مرض الأيادي القذرة، غيّر الوباء سلوكيات الشعوب الصحية، وأجبر الحكومات على توفير صرف صحي جيّد، ومصادر مياه نظيفة لشعوبها، وازدهرت الحركة العمرانية. كل وباء يصيب البشر يغيّر منهم نحو إنسان أفضل، فقط إذا أجادوا فهم الدرس.
جائحة القرن العشرين يمكنها تشكيل عاداتنا الاجتماعية لسنوات مقبلة. يقول علماء الاجتماع إن أسابيع أو أشهرا من الابتعاد الاجتماعي والنظافة الصحية، قد تغيّر سلوكنا فترة طويلة مقبلة.
حينما تُعلَن عودة الحياة إلى المدن لن تعود الحياة كما كانت، بل ستبدأ بكل حذر، وسيسأل كل إنسان نفسه ما الشيء الذي يمكنني مزاولته بشكل طبيعي ودون قلق.
من تخطي المصافحة، والحفاظ على مسافة آمنة من الأشخاص الآخرين، والاهتمام بغسل اليدين والتعقيم، نحن بصدد رؤية نتائج التأثير الذي أحدثته جائحة كورونا على ثقافتنا، وعاداتنا ومفاهمينا.
نحن نعي الآن أن لمس الأشياء والوجود مع أشخاص آخرين وتنفس الهواء في مكان مغلق يمكن أن يكون أمرا محفوفا بالمخاطر.
مدى سرعة تراجع هذا الوعي ستختلف باختلاف الأشخاص، ولكن لا يمكن أن تختفي تماما لأي شخص عاش زمن هذه الجائحة، قد تختفي تحية ملامسة الأنوف وتقبيلها إلا فيما ندر، ستتغير طريقة إلقاء التحية لوقت ليس بقصير، ربما يكتفي البعض بالتلويح بالسلام.
سيخشى الناس الزحام وقتا طويلا، وسنتعلم الوقوف في الطابور، وسنحترم المسافة المتاحة بيننا، سنستوعب ثقافة احترام الطوابير، هذه الثقافة التي لم نستوعبها من قبل، ولم نستطع فهمها، أو الرضوخ لها كثقافة مجتمع، رغم أننا نؤمن بها عندما نسافر للخارج ونمارسها بصبر شديد، وأتت الجائحة لتعلمنا أنها ضرورة، ويجب أن تكون جزءا من ثقافتنا، سواء كنا في الداخل أو الخارج.
لن تعود المطاعم مكتظة بالناس، إذ سيرغب معظمهم في أخذ طعامهم وتناوله في المنزل، لأنهم مارسوا ذلك وقتًا لا بأس به، أشعرَهم أن المنزل هو الأكثر أمانا في العالم.
سيتعين على المطاعم ترك مسافات آمنة بين طاولة وأخرى، أو ربما تعود ظاهرة السواتر والفواصل بين الطاولات، ليس حفاظا على الخصوصية بل لتكون المسافات إجبارا وليس خيارا، أو كما صممت روما طاولات مطاعمها بوضع فواصل زجاجية على أطراف الطاولة أو في وسطها، تسمح لمرتاديها بالأكل والحديث دون تلامس جسدي، وما زال الإنسان يتعلم ما دام على قيد الحياة.

(
(