
إن حرية الرأي مطلب عزيز في حياتنا الفكرية شريطة عدم المساس بثوابت الدين والتاريخ وحقائق العلم وأمن الوطن. فإذا مست حرية الرأي شيئا من ذلك وجب التوقف بل المواجهة والمساءلة. وإن ما يتدفق علينا في السنوات الأخيرة من المقالات والمنشورات والكتب التي تطرح تأويلات غريبة لتاريخ الجزيرة العريية بعامة وبلادنا المملكة العربية السعودية بخاصة لهو أمر مقلق. ومصدر القلق أن هذه الكتب والمقالات تحمل ما يشبه الأقوال المرسلة المنفلتة؛ فهي مبنية على نصوص محرفة ولا تمر على الجمعيات التاريخية ولا تناقش مع المختصين قبل طرحها وتفتقد أبجديات البحث العلمي، وهي بلا سند ولا أدلة بل إنها قائمة على نسف ما هو ثابت وموثق بنصوص من القرآن الكريم والسنة الشريفة وسير أعلام الأمة وتراثها المحقق. وإن من أبرز تلك المُرسَلات ما يحمل وِزْرَه الأكاديمي اللبناني كمال صليبي من اعتساف تنزيل محتوى (التوراة) وجغرافيتها على جنوبي الجزيرة العربية وبخاصة جبال السروات وتهامة التي تقع في المملكة واليمن، وهو تلميذ وفي للأكاديمي الصهيوني المعادي للإسلام والعرب برنارد لويس عرّاب الصهيونية وراسم مشروع تفتيت العالم العربي، وقد أشرف على رسالة الصليبي للدكتوراه في مدرسة الدراسات الشرقية بجامعة لندن.
وإذا كان الصليبي قد نجا بمزاعمه التي لم تمحصها اللجان العلمية والجمعيات التاريخية وعلماء الآثار والشريعة، رغم تصدي أفراد غيورين لمزاعمه، فإن ذلك التراخي العلمي المؤسسي مع مزاعمه شجع آخرين على أن يحذوا حذوه في الزعم والافتراء ولَيّ أعناق الحقائق. وكنا سنتجاوز كل هذا اللغط الفارغ لو بقيت الافتراءات تصدر من أشخاص لا يربطهم ببلادنا الانتماء ولا الولاء، فقد اعتدنا على سماع أصوات نشاز كثيرة تسيء إلى بلادنا ثم تتلاشى كالهباء المنثور. لكن الأمر اقترب كثيرا فأصبح (الرجم في الباب ومن الأحباب)كما يقال. فوجدنا بعض المغامرين المحليين يسيرون على المنوال نفسه وربما أسوأ دونما رقيب ولا حسيب. وقد نشرت لهؤلاء المغامرين أعمال صادمة عن طريق دور نشر محلية يفترض أن تكون صمام أمان ثقافي وتاريخي، وذلك يجعلنا نتساءل عن ضوابط التحكيم والنشر المطبقة في دور النشر؟!
وللتقليل من هذه الفوضى أدعو إلى تشكيل لجنة تاريخية عالية المستوى تضم أعضاء مختصين في التاريخ والآثار والجغرافيا واللغة العربية واللغات السامية والشريعة الإسلامية، وتكون مهمة اللجنة الاطلاع على أي كتاب يتبنى فكرا افترائيا مثل فكر الصليبي ومحاورة صاحبه للوقوف على ما لديه، فقد يكون تابعا ساذجا وقد يكون حاقدا مغرضا، وفي كلتا الحالتين يجب ترشيد مساره وكبح جماحه. ذلك أنه لا بد من الوقوف في وجه أي فكر يستهدف نسف ما استقر في ذاكرة الأمة من تاريخ وثقافة وعقيدة ويمس استقرار بلادنا وأمنها بالتزوير والافتراء مما يعرضها لمطامع الطامعين وعدوان المعتدين. وهذا الحزم مطلب علمي ثقافي ملحّ وضرورة اجتماعية وطنية لازمة. والمهمة لا تتوقف على الجهات الرسمية، بل إن مناطها المجتمع كله بمثقفيه ومؤرخيه ومفكريه ووعيهم بالمصلحة العليا للوطن والأمة، وحرصهم على عقول الأجيال القادمة ممن لا يعلم إلا الله كيف سيكون حالها تحت وطأة التضليل الممنهج والبرمجة الذهنية لعقولهم تجاه تاريخهم وتراثهم بل تجاه عقيدتهم ووطنهم. والله المستعان.