
حاول أن تفكر في الإجابة على هذا السؤال ، وستتوارد إلى ذهنك الأجوبة ، وستدرك أنه يصعب عليك اختيار الإجابة الأكثر اقترابا من هذا السؤال .
.
ربما قال قائل : مادام للإتقان درجات ، ومادامت تلك الدرجات لا نهاية لها ؛ إذن لن تكون هنالك إجابة ، لأن كل إجابة ستفترض أن هنالك درجة أعلى للإتقان موجودة ، وبالتالي فهنالك دائما إجابة أخرى محتملة الوجود .
.
لكن دعني أهدم في عقلك فكرة اللامتناهي هذه ، أولا بالتقرير أن ما أقصده إنما هو درجات الإتقان التي تخص الوجود الممكن ، أي الوجود المتناهي ، أي وجودي أنا وأنت ، إنني أقصد درجات الإتقان الممكنة ، المتناهية ، المتعلقة بي وبك ، لا المتعلقة بواجب الوجود ، اللامتناهي ، الله سبحانه وتعالى .
.
وحيث إنني ممكن ، ومتناه ، وأنت كذلك ، إذن فدرجات إتقاننا ممكنة ، ومتناهية أيضا ، ومادامت كذلك إذن لابد بالضرورة أن تكون هنالك إجابة ، وحيث إنه أصبح ممكن وجود إجابة على سؤال : ما أعلى درجات الإتقان ؟ لأنك تعلم أي معنى عنيته أنا بـ ” أعلى درجة ” فما الإجابة أذن ؟ .
.
اسمح لي أن أختصر عليك الطريق ، وأقول لك الإجابة من وجهة نظري ، ولا تتمسك بعبارة ” وجهة نظري ” كي تستدل بها على اللامتناهي ، لأنها في الواقع إنما تدل على نسبية الفهم ، لا على لاتناهي الفهم ، وفرق بين النسبية واللاتناهي ، والفهم نسبي ومتناه .
.
ذلك أن النسبية تعني التفاوت ، ولا ترادف اللامتناهي ، كما أنها تتعلق بالمتناهي ، لأنها تحصل داخل إطاره ، بمعنى أن المتناهي متفاوت ، وحيث إن النسبية من خصائصه ، فهي متناهية أيضا ، ولا علاقة لها باللامتناهي .
.
على كل حال أعود إلى الإجابة من وجهة نظري ، وأرى أن أعلى درجات الإتقان : ” ممارسة الشيء على نحو من تطبيق شروط كماله دون الاضطرار إلى الحديث عن هذه الشروط ” .
.
لقد كان ديكارت متقنا ، وكان الفرزدق متقنا ، وكان أبو تمام متقنا ، وكان الأول قد تأمل التأملات كما يتأمل غيره ، لكن على نهج دقيق مارسه ولم يتحدث عنه ( أقصد في التأملات ) كما أن الثاني قال شعرا وقال : عليكم أنتم أن تؤولوا ، وقال الثالث : أنت لمَ لا تفهم ما يقال .